بقلم: موسى الدردساوي mdardasawi@yahoo.com
في الساعة الثالثة فجرًا، على أطراف صحراء
الكرامة، كانت شاحنة المساعدات رقم 17 تستعد للعبور نحو غزة. لم يكن هدير المحرك
هو ما جذب انتباه عبد الله، الموظف الميداني في الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية،
بل صوت أذان الفجر يتردد في فضاءٍ ساكن. توضأ من زجاجة ماء بالكاد تكفي للشرب،
وصلى على الإسفلت، ثم عاد بهدوء إلى مهمته: إيصال طرود الإغاثة لأناسٍ ما زالوا
تحت القصف.
لم يكن يعلم أن المؤسسة التي أفنى فيها شبابه، ستُصبح قريبًا محل تشكيك إعلامي في تقرير نشرته منصة Middle East Eye، ألمح إلى وجود خلل محتمل في آلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، دون أن يقدّم دلائل موثقة أو تواصل مباشر مع الهيئة.
تقرير بلا تحقيق ميداني
يشير التقرير المنشور إلى ما وصفه بـ “ثغرات"
في مسار المساعدات، لكنه لا يستند إلى مستندات واضحة، ولا يتضمن شهادات من
الميدان، كما لا يذكر أي تواصل مع الهيئة أو مراجعة للبيانات التي تنشرها بشكل
دوري على موقعها الرسمي.
في العمل الصحفي المهني، يُفترض أن تبنى الاتهامات على تحقيق ميداني، أو على الأقل تقاطع معلومات من مصادر متعددة. غير أن التقرير اعتمد لغة التلميح والافتراض، وأهمل السياق الميداني المعقد الذي تتحرك فيه القوافل الإنسانية، خصوصًا في بيئة شديدة التقلب كغزة.
الحكايات التي لا تُروى كثيرًا
ما لا تتضمنه هذه التقارير الخارجية، هي القصص
الإنسانية التي يعيشها موظفو ومتطوعو الهيئة على الأرض. في حيّ الشجاعية مثلًا،
وتحت أنقاض منزل دُمّر قبل يومين، كانت أم يوسف تحتضن طفلها المصاب بالربو، بلا
دواء، ولا كهرباء، ولا خبز. حين وصلت قافلة الهيئة إلى المستشفى الميداني المجاور،
دخل طبيب أردني يحمل أدوية تنفس وحليب أطفال.
قالت أم يوسف:
"كأنهم جايين من آخر النفق... ما صدقت
إن في حدا لسه بيفكر فينا."
وفي منطقة أخرى، كان الشاب محمود، متطوع من غزة،
يوزع طرود الهيئة. قال:
"أول ما شافوا عبارة (هدية من الشعب
الأردني)، الكبار بكوا. حسينا إن في ناس معتبرينا بشر، مش مجرد أرقام."
هذه القصص ليست استثناءً، بل جزء من سجل طويل من العمل الميداني، الذي كثيرًا ما يظل بعيدًا عن عدسات الكاميرا.
مؤسسة تعمل بصمت... لا باستعراض
الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، ومنذ تأسيسها،
التزمت بخط واضح: العمل الإنساني الفعّال بعيدًا عن الاستعراض. وهي ليست جهة
سياسية، بل ذراع إغاثية مدنية تنسّق مع منظمات دولية معروفة مثل الصليب الأحمر وبرنامج
الغذاء العالمي.
في الحالة الغزّية تحديدًا، يجري التنسيق بدقة مع السلطات المعنية والمنظمات الميدانية، ويُوثَّق كل إنزال وكل طرد وكل ساعة عبور. وهذا ما يجعل الهجوم الإعلامي الأخير محل تساؤل جاد.
التشكيك وسياقه الأوسع
من المشروع أن تُطرح الأسئلة حول أي عملية
إنسانية، لكن من غير المقبول القفز إلى الاستنتاجات دون أدلة، لا سيما حين يتعلق
الأمر بمؤسسة إنسانية أثبتت حضورها الفعلي في أكثر من ساحة إقليمية.
ويثير توقيت الحملة الحالية تساؤلات: هل المقصود
هو الهيئة؟ أم ما تمثله من صورة للأردن كدولة توازن بين المبدأ والسياسة؟
في منطقة تنهكها الصراعات، يظل الأردن يقدم
نموذجًا أخلاقيًا متماسكًا، يُزعج أحيانًا من يرى في العمل الإنساني تهديدًا
لروايته السياسية.
من أجل من تُكتب الحقيقة؟
في نهاية كل قافلة، هناك طفل يمسك علبة دواء
كأنها حياة. هناك أم تمسك بكيس طحين كأنه بيتها. هناك متطوع أردني يضع حجرًا
جديدًا في جدار الثقة بين الدولة وشعبها، وبين الأردن والعالم.
لهؤلاء تُكتب الحقيقة. لا لأولئك الذين اختاروا
الطريق الأسهل: التشكيك من خلف الشاشات، دون تحقيق أو تواصل أو حتى محاولة فهم.
الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية باقية، لأنها
تُبنى بالفعل لا بالخطابات. ولأن الأوطان لا تُقوَّم بالتقارير المضللة، بل بما
تقدمه يومًا بعد يوم، على الأرض، حيث الحاجة هي المحك، والضمير هو الميزان.