ما زلنا على قيد الحياة

السبت، 10 مايو 2025

عندما تُطعَن اليد التي تُطعم ,,,,,,,,,,,, قراءة في محاولة التشكيك بعمل الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية

 

بقلم: موسى الدردساوي mdardasawi@yahoo.com

في الساعة الثالثة فجرًا، على أطراف صحراء الكرامة، كانت شاحنة المساعدات رقم 17 تستعد للعبور نحو غزة. لم يكن هدير المحرك هو ما جذب انتباه عبد الله، الموظف الميداني في الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، بل صوت أذان الفجر يتردد في فضاءٍ ساكن. توضأ من زجاجة ماء بالكاد تكفي للشرب، وصلى على الإسفلت، ثم عاد بهدوء إلى مهمته: إيصال طرود الإغاثة لأناسٍ ما زالوا تحت القصف.

لم يكن يعلم أن المؤسسة التي أفنى فيها شبابه، ستُصبح قريبًا محل تشكيك إعلامي في تقرير نشرته منصة Middle East Eye، ألمح إلى وجود خلل محتمل في آلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، دون أن يقدّم دلائل موثقة أو تواصل مباشر مع الهيئة.

تقرير بلا تحقيق ميداني

يشير التقرير المنشور إلى ما وصفه بـ “ثغرات" في مسار المساعدات، لكنه لا يستند إلى مستندات واضحة، ولا يتضمن شهادات من الميدان، كما لا يذكر أي تواصل مع الهيئة أو مراجعة للبيانات التي تنشرها بشكل دوري على موقعها الرسمي.

في العمل الصحفي المهني، يُفترض أن تبنى الاتهامات على تحقيق ميداني، أو على الأقل تقاطع معلومات من مصادر متعددة. غير أن التقرير اعتمد لغة التلميح والافتراض، وأهمل السياق الميداني المعقد الذي تتحرك فيه القوافل الإنسانية، خصوصًا في بيئة شديدة التقلب كغزة.

الحكايات التي لا تُروى كثيرًا

ما لا تتضمنه هذه التقارير الخارجية، هي القصص الإنسانية التي يعيشها موظفو ومتطوعو الهيئة على الأرض. في حيّ الشجاعية مثلًا، وتحت أنقاض منزل دُمّر قبل يومين، كانت أم يوسف تحتضن طفلها المصاب بالربو، بلا دواء، ولا كهرباء، ولا خبز. حين وصلت قافلة الهيئة إلى المستشفى الميداني المجاور، دخل طبيب أردني يحمل أدوية تنفس وحليب أطفال.

قالت أم يوسف:
"
كأنهم جايين من آخر النفق... ما صدقت إن في حدا لسه بيفكر فينا."

وفي منطقة أخرى، كان الشاب محمود، متطوع من غزة، يوزع طرود الهيئة. قال:
"
أول ما شافوا عبارة (هدية من الشعب الأردني)، الكبار بكوا. حسينا إن في ناس معتبرينا بشر، مش مجرد أرقام."

هذه القصص ليست استثناءً، بل جزء من سجل طويل من العمل الميداني، الذي كثيرًا ما يظل بعيدًا عن عدسات الكاميرا.

مؤسسة تعمل بصمت... لا باستعراض

الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، ومنذ تأسيسها، التزمت بخط واضح: العمل الإنساني الفعّال بعيدًا عن الاستعراض. وهي ليست جهة سياسية، بل ذراع إغاثية مدنية تنسّق مع منظمات دولية معروفة مثل الصليب الأحمر وبرنامج الغذاء العالمي.

في الحالة الغزّية تحديدًا، يجري التنسيق بدقة مع السلطات المعنية والمنظمات الميدانية، ويُوثَّق كل إنزال وكل طرد وكل ساعة عبور. وهذا ما يجعل الهجوم الإعلامي الأخير محل تساؤل جاد. 

التشكيك وسياقه الأوسع

من المشروع أن تُطرح الأسئلة حول أي عملية إنسانية، لكن من غير المقبول القفز إلى الاستنتاجات دون أدلة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمؤسسة إنسانية أثبتت حضورها الفعلي في أكثر من ساحة إقليمية.

ويثير توقيت الحملة الحالية تساؤلات: هل المقصود هو الهيئة؟ أم ما تمثله من صورة للأردن كدولة توازن بين المبدأ والسياسة؟
في منطقة تنهكها الصراعات، يظل الأردن يقدم نموذجًا أخلاقيًا متماسكًا، يُزعج أحيانًا من يرى في العمل الإنساني تهديدًا لروايته السياسية.

من أجل من تُكتب الحقيقة؟

في نهاية كل قافلة، هناك طفل يمسك علبة دواء كأنها حياة. هناك أم تمسك بكيس طحين كأنه بيتها. هناك متطوع أردني يضع حجرًا جديدًا في جدار الثقة بين الدولة وشعبها، وبين الأردن والعالم.

لهؤلاء تُكتب الحقيقة. لا لأولئك الذين اختاروا الطريق الأسهل: التشكيك من خلف الشاشات، دون تحقيق أو تواصل أو حتى محاولة فهم.

الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية باقية، لأنها تُبنى بالفعل لا بالخطابات. ولأن الأوطان لا تُقوَّم بالتقارير المضللة، بل بما تقدمه يومًا بعد يوم، على الأرض، حيث الحاجة هي المحك، والضمير هو الميزان.


الثلاثاء، 6 مايو 2025

من الحبر إلى الخوارزمية: معركة الإبداع في زمن التحول الرقمي

 

بقلم: موسى الدردساوي mdardasawi@yahoo.com


في أواخر الثمانينيات، حين دخل الحاسوب إلى المطابع ودور النشر، لم يُرحّب به، بل نُظر إليه كدخيل. تحدّث الخطاطون عن "موت الروح"، وارتبك المصممون أمام الشاشة الباردة. لم تكن المسألة مجرد استبدال أدوات، بل كانت تحديًا لهوية مهنية وثقافية متجذّرة، ومواجهة وجودية: من نحن دون أيدينا؟ كيف نثق في آلة لا تشعر؟

فالخط العربي، الذي نشأ في أحضان القرآن الكريم وتطوّر عبر قرون، وجد نفسه في مواجهة التكنولوجيا الحديثة. ولطالما ارتبط الخط العربي باللمسة البشرية، بتلك الرجفة الخفيفة التي تمنح الحرف هويته. "الخط فنّ لا تحتمله الآلة"—تلك العبارة ظلّ يرددها حتى آخر أيامه الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي، الذي رحل عام 1982. فقد كان يُنظر إلى الحاسوب كجسم بارد، ميكانيكي، لا يستطيع محاكاة الانحناءات الدقيقة التي تحتاجها نقطة الباء، أو دقة التوازن في الألف واللام.

أما الخطاط السوري أحمد المفتي، فعبّر عن رفضه لاستخدام الحاسوب في الخط العربي، قائلاً: "لم أستخدم الحاسوب طوال حياتي، لأنه يشوّه الخط ويُفقده شفافيته وروحه؛ حيث يصبح جسماً لا روح فيه."

في المقابل، يرى الخطاط محمد زيدان من سوريا أن التوازن ممكن؛ إذ يستخدم الحاسوب لتعديل بعض التفاصيل، ثم يعيد كتابة العمل بخط اليد، مؤكداً: "من الذكاء دمج الأصالة مع التطور التقني، وتوظيفه في خدمة كل ما هو قديم ومهدّد بالاندثار."

ولم يكن الخطاطون وحدهم من وقفوا على الجبهة المعارضة؛ بل أصحاب المطابع التقليدية أيضًا، عبّروا عن مخاوفهم من أن تتحوّل مهنتهم إلى "مجرد ضغط أزرار" لا تتطلب خبرة ولا حرفة، تلك التي بنوا بها أسماءهم عبر عقود.

ورغم الخوف، وكما يفعل الإنسان دائمًا، بدأ التكيّف. ولم يعد الحاسوب خصمًا، بل صار رفيقًا في محراب الإبداع. ليبرز دور شركات مثل "ديوان" اللبنانية، التي أطلقت خطوطًا رقمية بمستوى احترافي مثل "ديوان ثلث" و"ديوان كوفي"، واستقطبت بذلك أعين المصممين العرب في الداخل والخارج. أما الخطاط السوري عثمان طه، فرغم وفائه للخط اليدوي، فقد تحوّلت نسخته اليدوية من المصحف الشريف إلى معيار رقمي في تطبيقات ومنصات قرآنية عديدة، في تجسيدٍ مثالي للتلاقي بين الروح والحوسبة.

أما في عالم الصحافة، حين ركض الخبر أسرع من الحبر، وبينما كانت غرف الأخبار تعجّ برائحة الحبر وصوت الآلات الكاتبة، تسلّل الحاسوب إلى المشهد بهدوء خادع، كأنه مجرد أداة تقنية جديدة. لكن في أعماق هذا "الصندوق الغريب"، كانت تختمر ثورة لا تقلّ خطورة عن تلك التي أحدثها الراديو أو الطباعة ذاتها قبل قرون.

صحيفة The Washington Post كانت من أوائل الصحف الأمريكية التي بدأت تجربة التحرير بالحاسوب. تقول إحدى الصحفيات التي عملت محررة في الصحيفة آنذاك:
"
كان الحاسوب ينهار أحيانًا لأسباب غير مفهومة. كنا نقف عاجزين أمام شاشات سوداء، مثل مرضى في غرفة طوارئ لا طبيب فيها."
لكن، تدريجيًا، بدأ التحرير الإلكتروني يفرض نفسه. لم يكن الطريق سلسًا، لكنه كان حتميًا.

في العالم العربي، شكّلت صحيفة النهار اللبنانية نموذجًا لصحيفة تعايشت مع التحوّل رغم الحرب الأهلية والحصار. في أواخر الثمانينيات، أدخلت الصحيفة أول نظام تحرير إلكتروني. يقول الصحفي الراحل جبران تويني في إحدى مقابلاته:
"
ما لم تواكب التقنية، ستسقط كصحيفة وكفكرة. الورق وحده لا يكفي."
وكان قراره آنذاك جريئًا، إذ عارضه كبار المحررين الذين تخوّفوا من أن "تفقد الصحافة روحها".

في مصر، دخلت الحواسيب إلى جريدة الأهرام تدريجيًا خلال التسعينيات. الغريب أن المؤسسة لفترة طويلة كانت تستخدم نظامين بالتوازي: أحدهما تقليدي، وآخر رقمي. يذكر أحد المحررين الكبار هناك:
"
كنا نكتب المقال على الآلة الكاتبة، ثم نطلب من شاب صغير أن يعيد كتابته على الحاسوب. لم نكن نثق بالآلة بعد."
لكن لم يطل الوقت قبل أن تصبح النسخة الإلكترونية هي الأصل، والورقة مجرد ظلّ متأخر.

في كثير من الصحف، كانت ردود الفعل إنسانية جدًا. بعض العاملين في أقسام الصف والتصميم غادروا المهنة، غير قادرين على التكيّف مع "الماوس" والواجهة الرسومية. البعض الآخر تعلّم في سن الخمسين، وتحول إلى معلّم للآخرين.
في صحيفة لوموند الفرنسية، وصف أحد الفنيين المتقاعدين تلك المرحلة قائلًا:
"
كنا نرى الزملاء يختفون واحدًا تلو الآخر. لم يكن الحاسوب يطلق النار، لكنه قتل مِهَناً كاملة بهدوء القاتل البارد."

اليوم، لم تعد المسألة مجرد حاسوب، بل شبكة رقمية كاملة تتحرك من الهاتف إلى السحابة، من المقال إلى البودكاست. الصحفي بات مطالبًا بأن يكون كاتبًا ومخرجًا ومصممًا في آنٍ واحد. لكن جذور هذا التغيير، الذي نعيشه كأمر بديهي، تعود إلى تلك اللحظة المرتبكة حين وُضع أول حاسوب في ركن متواضع من غرفة الأخبار. كانت لحظة صراع بين الماضي والمستقبل، بين الإنسان والآلة، بين الورقة والبيكسل. لكنها أيضًا كانت لحظة ميلاد جديدة.

ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى هذا المجال، بدأت العديد من دور النشر تتساءل: هل سيُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة واقع النشر؟ هل سيحلّ محلّ الكاتب البشري؟
رغم الإمكانيات الكبيرة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في توليد النصوص وتحليل البيانات، لا تزال العديد من دور النشر تقاوم استخدام النصوص المنتَجة بهذه التقنيات. لكن السؤال الأساسي يبقى: لماذا هذا الرفض؟

السبب الرئيسي الذي تقف خلفه دور النشر هو الخوف من فقدان الأصالة. فالنصوص التي يولدها الذكاء الاصطناعي، رغم إتقانها اللغوي، تفتقر إلى "الصوت الإنساني" الذي يعكس التجربة الشخصية للكاتب.
هذا الفارق بين النصوص البشرية وتلك التي يكتبها الذكاء الاصطناعي يعكس تساؤلات أعمق حول معنى الأدب ودوره الثقافي. أضف إلى ذلك الإشكاليات القانونية المتعلقة بحقوق النشر، إذ لا يمكن منح ملكية فكرية لعمل غير بشري.

الأمر لا يقتصر على الجانب التقني، بل يمتد إلى أبعاد ثقافية وأخلاقية. ففي العديد من المجتمعات، يُعتبر الأدب فعلًا روحيًا، موروثًا ثقافيًا يتجاوز قدرات الآلات. لذا يُنظر إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة باعتباره تدنيسًا لهذا التراث. فلا يتعلق الأمر فقط بالأصالة أو الحقوق القانونية، بل أيضًا بالترابط العاطفي والإنساني الذي يتشكّل بين القارئ والكاتب.

فهل، مع مرور الوقت، ومن خلال التقدم المستمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ستُضطر دور النشر إلى إعادة النظر في موقفها؟
هناك من يرى أن المستقبل لن يكون حكرًا على الكاتب أو الآلة، بل سيكون شراكة بين الاثنين.
ففي النهاية، يظل الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، بينما يبقى الإنسان هو مركز الإبداع.

الذكاء الاصطناعي قد يُعزز من قدرات الكُتّاب، ويساعدهم في تطوير أفكارهم، لكنه لن يحلّ محلّهم أبدًا. فالإنسان هو الذي يملك القدرة على تحويل التجربة الحياتية إلى كلمات، وهو الذي يستطيع أن يمنح الآلام والأفراح والأحلام طعمًا في النصوص.

لذلك، ينبغي على دور النشر أن تتقبّل هذا التغيير التكنولوجي، لكن بحذر، وأن تجد توازنًا بين التكنولوجيا والإبداع البشري؛ حيث يمكن للتكنولوجيا أن تكون وسيلة لتوسيع نطاق الإبداع، لا لتهديده.

وهكذا، تُعد رحلة الحاسوب في مجالات الطباعة والنشر رحلة معقدة، بين الشك والتحدي، وبين التكيّف والقبول. ويبقى الإنسان هو الغاية. فلا قيمة لأي نظام رقمي أو قاعدة بيانات إن لم تُصمَّم لخدمته وتحسين حياته. تتغير الأدوات، تتطور السرعة، يُعاد تشكيل المهن… لكن القدرة على التأقلم، والبحث عن المعنى، والتمسك بالقيمة الإنسانية، هي ما سيجعلنا لا ننجو فحسب من التغيير، بل نقوده.