ما زلنا على قيد الحياة

الثلاثاء، 21 يناير 2025


بقلم: موسى الدردساوي mdardasawi@yahoo.com 

في عالَم الإدارة، يبرز صراع أزلي بين مدرستين فكريتين تتنافسان على تحقيق الأفضلية في قيادة المؤسسات. الأولى تتبنى سياسة "الأبواب المغلقة"، حيث ينأى المسؤول بنفسه عن الانغماس في تفاصيل العمل اليومي، مكتفيًا بالظهور عند وقوع أزمات جسيمة تتطلب تدخله المباشر. والثانية تدعو إلى سياسة "الأبواب المفتوحة"، حيث يكون المسؤول حاضرًا دومًا، يصغي لهموم المواطنين والموظفين، ويتابع حتى أدق المشكلات.

لكن بين النظري والتطبيقي، تكمن المشكلة. في العديد من المؤسسات، تبدو سياسة الأبواب المفتوحة وكأنها واجهة دعائية لا أكثر. تُعلن على لوحات الإعلانات عن مواعيد محددة لاستقبال المواطنين، لكن هذه اللقاءات سرعان ما تتحول إلى روتين ممل، أو يتم تفويضها تدريجيًا إلى مدير المكتب أو السكرتارية. ومع الوقت، يجد المسؤول نفسه غارقًا في أعذار وحجج واهية لتجنب هذه اللقاءات تمامًا، مفضلًا التراجع خلف مكتبه، بعيدًا عن أعين الناس ومشاكلهم.

الغريب أن معظم القضايا التي يُفترض أن تُطرح في هذه اللقاءات ليست معضلات مستحيلة. حفرة في شارع، انقطاع في الكهرباء، أو خط هاتف معطل. قضايا تبدو بسيطة للغاية، لكنها مع مرور الوقت وإهمال الحل تتحول إلى مشاكل أكبر تُثقل كاهل الجميع. حفرة صغيرة لا يتم إصلاحها في الوقت المناسب قد تؤدي إلى تخريب شارع بأكمله. انقطاع مؤقت في الكهرباء قد يصبح عائقًا كبيرًا يترك حيًا بأكمله في ظلام دامس.

المسؤول الذي يبدأ رحلته الإدارية بحماس ونية صادقة لإحداث تغيير حقيقي يجد نفسه في مواجهة جبل متراكم من المشكلات. كل قضية مؤجلة تضاعف الضغط، وكل وعد غير محقق يُنقص من رصيد الثقة بينه وبين الناس. وبينما يتراجع المسؤول خطوة بعد خطوة، تتسع الفجوة بين الإدارة والمواطن، ليصبح الحل بعيد المنال.

إن التحدي الحقيقي لا يكمن في اختيار سياسة الأبواب المفتوحة أو المغلقة، بل في القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة، مدعومة بإرادة صادقة وعمل جاد. المطلوب ليس فقط التواصل مع الناس، بل تحويل هذا التواصل إلى أفعال ملموسة. كل مشكلة تُحلّ في حينها هي خطوة نحو تقليص جبل الأزمات، وكل وعد يُنفّذ يعيد بناء جسور الثقة.

الإدارة ليست مجرد شعارات أو سياسات تُعلن على الورق. هي فن التوازن بين الاستماع والتحرك، بين التحليل والتنفيذ. عندما تغيب الإرادة الحقيقية، يصبح كل شيء، سواء كان باب المكتب مفتوحًا أم مغلقًا، عديم الجدوى. المسؤول القوي هو من يدرك أن المشكلة الصغيرة اليوم هي فرصة لتجنب كارثة الغد، وأن الحلول تبدأ بخطوة صغيرة لكنها ثابتة نحو التغيير الحقيقي.


ليست هناك تعليقات: